“أخشى أن يكونَ عياش جالساً بيننا!” هكذا عبَّرَ اسحق رابين، في اجتماعهِ مع أعضاءِ الكنيست، عن هلعِهِ وعجزِه أمامَ عبقريَّةٍ فذَّة تمثَّلتْ في الشهيدِ البطل “يحيى عياش“، مؤسِّسِ العملياتِ الإستشهادية في فلسطين، وخبيرِ المتفجرات في كتائبِ الشهيد عزِّ الدين القسام، الجناحِ العسكري لحركةِ المقاومةِ الإسلامية حماس.
مَنْ عياش؟
يَحيى عبد اللطيف عياش (1966-1996) من رافات قضاءَ نابلس. حفظَ القرآن، نشأَ في المساجد، نبغَ في الكيمياء، برعَ بالإلكترونيات، وحصلَ على الإجازة في الهندسة الكهربائية من جامعةِ بيرزيت عام 1989م. تزوَّج من ابنةِ خالتِه هيام عياش، ورزقهُ الله بولدين “البراء” و “يحيى” الذي سبقتْ ولادتُه استشهادَ أبيهِ بأيام.
وبدأتِ العملياتُ الاستشهادية
مع انطلاقةِ الانتفاضةِ الأولى المباركة عام 1987، عرضَ عياش برسالةٍ على حركةِ حماس أسلوبَ العملياتِ الإستشهادية لمقاتلةِ الصهاينة، والتي لم تكن معروفةً من قبلُ في فلسطين. فجاءتِ الموافقة، وبدأَ عياش إعدادَ السياراتِ المفخخة، والعبواتِ المتفجرة التي عُرفت باسم “حقيبة المهندس”.
وبعدَ مجرزةِ المسجدِ الإبراهيمي في 25-2-1994، التي قُتل فيها ثلاثون من المصلين في فجرِ جمعةِ رمضان، تولَّى أبو البراء عملياتِ الثأرِ لدماءِ الشهداء. فبرعَ في تصميمِ المتفجرات، وإرسالِها إلى عمقِ الكيانِ الصهيوني، في عملياتٍ نوعية حطَّمَتْ أمنَ الصهاينة، ووقفتْ أجهزةُ استخباراتِهِم عاجزةً أمامَها. نفَّذَ الاستشهاديونَ الأبطال إحدى عشرةَ عمليةً نوعية، بين إبريل 1994 ونوفمبر 1995، أسفرت عن مقتلِ 76 صهيونياً وجرح 400، تحملُ جميعَهَا بصماتِ المهندس الذي كان يُشرفُ على كُلِّ واحدةٍ منها من البداية إلى النهاية. وأصبحَ اسمُ يحيى عيَّاش يتكررُ في وسائلِ الإعلامِ الصهيونية مَع كُلِّ عمليةٍ استشهادية، وتصدَّرت صورَتُهُ نشراتِ الأخبار على كامِلِ الشاشة، وصارَ هاجسَ الصهاينة ومرعِبَهُم الأول.
تميَّزَ المهندس بقدرتِهِ على حَلِّ الشيفراتِ الإلكترونية للجُدُرِ التي تحيطُ بالمواقعِ العسكرية والمستوطناتِ الصهيونية. ولعلَّ تفوقَ عياش في صراعِ الأدمغة يبلغُ أوجَه في المصيدةِ التي أعدَّها لأفضلِ خبيرِ متفجراتٍ صهيوني في 5-6-1993. حيث قامَ المجاهدون بتفجيرِ عبوتين ناسفتين في دوريةٍ صهيونية فجُرح جنديان. ثم
أوصلوا خبراً للصهاينة أنَّ عبوةً ثالثةً مِن صُنعِ المهندس في مستوطنة “شيكيف” في الخليل لم تنفجرْ بعد. استدعى الصهاينة خبيرَ المتفجرات الميجر “يوسي حيون” ليعالجَ هذهِ العبوة الملتصقة بسيارة، والتي تتألفُ من عبوتَين مندمجتين. استطاعَ الميجر أن يُبطلَ مفعولَ الأولى منهُما، لكنَّهُ لم يكَدْ يُدرِك أنَّهُ بهذا قد سحبَ فتيلَ العبوةِ الأخرى حتى انفجرت به، وقُتل مِن فوره.
“أين المهندس؟!”
لم تبرُز عبقريةُ عياش في براعةِ تصميمِ المتفجراتِ فحسب، بل أيضاً في قدرتِهِ على التخفِّي والتنقلِ بينَ المدنِ والقرى، وبينَ الضفةِ الغربية وقطاعِ غزة. حتى أطلقتْ عليهِ وسائلُ الإعلام الصهيونية ألقاب: “العبقري”، “الثعلب”، و “الرجل ذو الألف وجه”. أما “المهندس” فهو اللقبُ الذي أطلقهُ عليهِ اسحق رابين، الذي ما فتِئَ يكررُ سؤالاً واحداً كلما اجتمعَ بقادةِ أجهزةِ الأمنِ الصهيونية: “أين المهندس؟!!”
بقيَ عياش المطلوب رقم واحد للأجهزةِ الأمنية الصهيونية طوال خمس سنوات سخَّرَ فيها الصهاينةُ كُلَّ إمكانياتِهِم للبحثِ عنهُ من الوحداتِ الخاصة وغيرها؛ كَمَنوا لهُ ليلاً ونهاراً، في المدنِ والقرى والمخيمات والمغر. وأعدوا دراساتٍ عن شخصيتِهِ وأسلوبِ حياتِه، وراقبوا أصدقاءَه، واعتقلوا المئاتِ مِن حماس. نجَّا الله تعالى عياش من عدةِ محاولاتِ اغتيالٍ منها ما كانَ في حيِّ القصبة في نابلس، وحيِّ الشيخ رضوان في غزة، حيثُ استشهدَ رفيقُه “كمال كحيل”.
موعدٌ مع الشهادة
اشتاقَ عياشُ إلى ربِّه، واستشهدَ في صباحِ الجمعة 14-شعبان-1416ه، الموافق 5-1-1996م. علِمَ جهازُ الشاباك بنزولِ عياش عندَ صديقِهِ “أسامة حامد” في غزة، وكانَ خال أسامة يدعى “كمال حماد” عميلاً متخفياً للشاباك. فأعطى أسامةَ جهازَ جوال ليستخدمهُ عياش، وقبلهُ المهندس بعد أن تأكد من سلامته. لكنَّ الخالَ الخائِن استطاعَ خداعَ ابنِ أختُه، واستعارَ الجوالَ ليومين ليزرعَ الصهاينةُ بهِ متفجراتٍ بوزنِ 50 غرام، ثم أعادَه. وعندما أجابَ عياش على اتصالِ أبيه- بناءً على طلبِ الخال العميل وبعدَ قطعِ الصهاينةِ للخطِّ الأرضي- انفجرَ الجوالُ المفخَّخ، عَن طريقِ طائرةٍ كانتْ تُحلِّقُ في الوقتِ نفسه. وارتقى عياشُ شهيداً. شيَّعَهُ 400 ألف فلسطيني في جنازةٍ عظيمة هي الأكبرُ في تاريخِ فلسطين. خرجتْ من مسجدِ فلسطين واستمرت خمس ساعات، وبلغ طولها 12 كم.
خليفةُ المهندس
رحلَ عياش بعدَ أن ترَكَ جيلاً من خبراءِ العبواتِ المتفجرِّة والسياراتِ المفخخة، الذين درَّبَهُم في مدارسَ أقامَهَا في الكهوفِ والمغارات. وتتابعَ على خلافةِ عياش: المهندس الشهيد محيي الدين الشريف، المهندس الأسير عبد الله البرغوثي، و المجاهد عبد الله حامد.
أهمُّ عملياتِ المهندس
6-4-1994: الشهيد “رائد زكارنة” يقودُ الردَّ الأول على مجزرةِ المسجد الإبراهيمي، ويفجِّرُ سيارةً مفخّخة قربَ حافلةٍ صهيونية في مدينةِ العفولة. مما أدّى إلى مقتلِ ثمانيةِ صهاينة ، وجرحِ ثلاثين.
13-4-1994: الشهيد “عمار عمارنة ” يفجِّرُ نفسَه داخلَ حافلةٍ صهيونية في مدينةِ الخضيرة، مما أدَّى إلى مقتلِ 7 صهاينة، و جرحِ العشرات.
19-10-1994: الشهيد “صالح نزال” يفجِّرُ نفسَه داخلَ حافلةِ ركابٍ صهيونية في شارع “ديزنغوف” في “تل أبيب”. مما أدّى إلى مقتلِ 22 صهيونياً، وجرحِ أربعينَ آخرين.
15-12-1994: الشهيد “أسامة راضي”، وهو شرطيٌّ فلسطيني و عضوٌ سري في القسام، يفجِّرُ نفسَهُ قربَ حافلةٍ تقلُّ جنوداً في سلاحِ الجو الصهيوني في القدس، و يجرحُ 13 جندياً.
22-1-1995: مجاهدان قساميان يفجران نفسيهما في محطةٍ للعسكريين الصهاينة في منطقةِ بيت ليد قرب نتانيا،. مما أدّى إلى مقتل 23 جندياً صهيونياً، و جرحِ أربعين آخرين، في هجومٍ وُصف أنه الأقوى من نوعه.
9-4-1995: حركتا حماس و الجهاد الإسلامي تنفّذان هجومين استشهاديين ضدَّ مستوطنين صهاينة في قطاعِ غزة، مما أدّى إلى مقتلِ سبعةِ مستوطنين رداً على جريمةِ الاستخباراتِ الصهيونية في تفجيرِ منزلٍ في حيِّ الشيخ رضوان في غزة، أدّى إلى استشهاد خمسة فلسطينيين، بينهم الشهيد “كمال كحيل” صديق يحيى عياش وأحد قادة القسام، و مساعد له.
24-7-1995: مجاهدٌ قسامي يفجِّرُ نفسَه داخلَ حافلةِ ركابٍ صهيونية في “رامات غان” بالقرب من “تل أبيب” ؛ مما أدّى إلى مصرع ستة صهاينة و جرح 33.
21-8-1995: هجومٌ استشهاديّ استهدف حافلةً صهيونية للركاب في حيّ “رامات أشكول” في القدس، مما أسفرَ عن مقتلِ خمسة صهاينة، و إصابة أكثر من 100 بجروح.
يقولُ يَحيى
- إنَّ الحربَ ضِدَّ إسرائيل يجبُ أن تستمرَّ إلى أن يخرجَ اليهودُ مِن كُلِّ أرضِ فلسطين.
- على الكريمِ أن يختارَ الميتةَ التي يجبُ أن يلقى الله بها، فنهايةُ الإنسانِ لابُدَّ أن تأتي ما دامَ أمرُ الله قد نفَذ.
- بإمكانِ اليهود اقتلاعُ جسدي من فلسطين، غير أنني أريدُ أن أزرعَ في الشعبِ شيئاً لا يستطيعون اقتلاعه.
- لا تنزعجوا فلستُ وحدي مهندسَ التفجيرات، فهناكَ عددٌ كبير قد أصبحَ كذلك، وسيقضُّونَ مضاجِعَ اليهودِ وأعوانِهُم بإذن الله.
عملياتُ الثأرِ لعياش
بعد خمسين يوماً من استشهاد المهندس، بدأت سلسلةُ هجماتٍ استشهادية في القدس والمجدل، وبعد أسبوع في القدس و”تل أبيب”. ليسقط حوالي ستين قتيلاً صهيونياً وعشرات الجرحى، و بادرت على إثرها قوات الاحتلال الصهيوني إلى هدم منزل المهندس وتشريدِ أهلهِ من بيتِهِم في رافات.
عملية الحافلة 18 الأولى: تمكَّنَ المجاهد “مجدي محمد أبو وردة” في 25/2/1996 من صعودِ الحافلة التي تعمل على خط رقم 18 المؤدّي لمقرِ القيادة العامة للشرطةِ الصهيونية وجهازِ المخابرات العامة (الشاباك). كانَ المجاهد يرتدي ملابسَ الجنودِ الصهاينة ويحملُ 15 كغ من المتفجرات الممزوجة بكمية من المسامير والقطع المعدنية الحادة. وفي السادسة و48 دقيقة فجِّر الاستشهادي المتفجرات أثناء توقف الحافلة عند إشارة المرور فتدمرت الحافلة المكوّنة من مقطورتين بالكامل، وانشطرت إلى نصفين. قُتل بالعملية 18 صهيونياً بينهم 13 جندياً وعدد من ضباط وكوادر الشاباك ، وجُرح أكثر من 50 صهيونياً.
عمليةُ عسقلان: بعد أقل من 45 دقيقة من ملحمةِ مجدي أبو وردة، وفي السابعةِ والنصف، أوصلت مجموعات الإسناد في كتائب الشهيد عز الدين القسام البطل “إبراهيم حسن السراحنة” إلى محطةِ سفرِ الجنودِ الصهاينة عندَ مفترقِ الطرق في عسقلان. كانَ المجاهدُ القسامي يرتدي زيَّ الجنودِ الصهاينة، ويحملُ حقيبةً احتوت على خمسةَ عشر كيلو غراماً من المتفجراتِ المحشوةِ بالمسامير والكراتِ المعدنية، عندما دخلَ إلى المحطة التي كانَ يقفُ فيها أكثرُ من 35 جندياً. فجَّرَ الاستشهاديُّ نفسَه فقتلَ ثلاثةَ جنودٍ صهاينة وجرحَ ثلاثين، وُصفت جراحُ 19 منهم بالخطيرة.
عمليةُ الحافلة 18 الثانية: نفَّذها “رائد عبد الكريم الشغنوبي” في الحافلة العاملة على خط 18 للمرةِ الثانية خلالَ أسبوع! ففي يوم الأحد 3-3-1996، فجَّرَ البطلُ القسامي عبواتَهُ الناسفة داخلَ الحافلة بعدَ أن تجاوزَ إجراءاتِ الأمنِ والمراقبة الشديدة. دمَّرَ الانفجارُ الحافلة وتطايرَ حُطامُهَا في دائرةٍ قطرُهَا خمسينَ متراً، وأعلنَ المتحدثُ الرسمي باسمِ الشرطَةِ العسكرية عن مقتلِ 19 صهيونياً، و جرحِ عشرةٍ آخرين، جروحُ سبعةٍ منهم بالغة الخطورة.
عملية ديزنغوف: و بعد أيامٍ قليلة من عمليةِ الشغنوبي و أثناءَ احتفالِ الصهاينة بأعيادهم، فجَّرَ المجاهد” رامز عبيد” عبوةً ناسفة كان يحملُهَا وسطَ ساحةِ ديزنغوف في “تل أبيب” مما أدّى إلى مقتلِ 13 صهيونياً وإصابةِ العشرات بجراح
قالوا عنه
يقول إسحق رابين: “لا أشُكُّ أنَّ المهندس عياش يمتلكُ قدراتٍ خارقة لا يملكها غيره، وإنَّ استمرارَ وجودِهِ طليقاً يمثِّلُ خطراً واضحاً على أمنِ إسرائيلَ واستقرارِها”.
ويضيف شمعون رومح أحد كبار العسكريين الصهاينة : “إنَّهُ لمِن دواعي الأسف، أن أجدَ نفسي مضطراً للاعتراف بإعجابي وتقديري لهذا الرجل، الذي يبرهنُ على قدراتٍ وخبراتٍ فائقة، في تنفيذِ المهامِ الموكلَةِ إليه، وعلى روحِ مبادرةٍ عالية وقدرةٍ على البقاءِ وتجديدِ النشاطِ دونَ انقطاع”.
أما موشيه شاحاك، وزير الأمن الداخلي الصهيوني آنذاك، فيقول: “لا أستطيعُ أن أصفَ عياش إلا بالمعجزة، فدولةُ إسرائيل بكافة أجهزَتِها لا تستطيعُ أن تضعَ حداً لعملياته”.
وبعد اغتيال يحيى عياش، صرَّحَ شاحاك: “باتت إسرائيل تتنفسُ بشكلٍ أفضل بعد إعلانِ وفاته، لقد ألحقَ الأذى بالعديدِ من الإسرائيليين، كان يعيشُ على السيف وبالسيف مات”.
وعبَّرَ الجنرال يعقوب بيري رئيسُ الشاباك السابق عن خوفهِ حتى بعدَ استشهاد عياش: “إنني أحذِّرُ من أن نصابَ بحالةٍ من النشوة والغرور، بحيثُ نعتقدُ بأنَّ قتلَ المهندس سيضعُ حداً للعمليات المسلحة والعبواتِ الناسفة والعملياتِ الانتحارية”.
وأضاف الجنرال بيري أن عملية الاغتيال :”لن تكونَ الضربةَ القاضية ولا نهايةَ المطافِ للهجماتِ الانتحارية التي أبدَعَ المهندسُ في شقِّ طريقِهَا. وتركَ وراءَهُ العشراتِ من تلاميذِه الذين لا يقلونَ كفاءةً وقدرةً عنه في مواصلةِ الطريق”.
واختتم بيري تحذيره: “إنَّ كفاءةَ وأهليةَ المهندس تمثَّلت بالأساس في خبرَتِهِ ومعرفتِهِ المدهشة والواسعة في مجالِ إعدادِ القنابلِ المفخخة، سواءً بواسطةِ سياراتٍ مفخخة أو عبوات جسمية بشرية. بالإضافةِ إلى مقدرَتِهِ العالية على الإفلاتِ من عملياتِ المطاردة، والتملُّصِ من ملاحقةٍ دوريةٍ ومستمرةٍ لهُ من جانبِ جهازِ المخابراتِ العامة وأجهزةِ الأمنِ الإسرائيليةِ الأخرى. كانَ عياش أخطرَ المطلوبين الفلسطينيين لأجهزةِ الأمن الإسرائيلية التي بذلت جهوداً مضنية من أجلِ إلقاء القبضِ عليه خلالَ السنواتِ الأخيرة. وإنَّ زوالَ المهندس وضعَ حداً لأخطرِ وأعنفِ المحاربين الذينَ عرفناهم”.